هل الطفل الذي لا يقرأ خارج المقرر قادر فعلًا على تطوير قدراته العقلية واللغوية؟ وهل تستطيع الوسائل الرقمية أن تعوّض الكتاب الورقي في صقل ملكة النقد والتفكير المستقل؟ هذه الأسئلة تُلقي بظلالها على واقعنا التعليمي وتضع القراءة الحرة في قلب النقاش حول التنمية المعرفية للأطفال والتلاميذ.
القراءة الحرة… أكثر من ترفيه
لا تقتصر القراءة الحرة على التسلية أو الترفيه، بل تشكّل رافعة أساسية لبناء شخصية الطفل وتنمية مهاراته. فالدراسات التربوية تؤكد أن التلميذ الذي يمارس المطالعة خارج المناهج يكتسب قدرة أكبر على التفكير المستقل، ويطوّر خياله ولغته، ويعزز وعيه النقدي عبر مواجهة أفكار متنوعة. وكما قال بول ريكور: «القراءة الحقيقية هي لقاء بين الفكر والآخر، وفهم للذات عبر مواجهة العالم».
فجوة تعليمية تُقيّد الخيال
غير أنّ الواقع يكشف عن فجوة مقلقة: كثير من التلاميذ يغادرون المدرسة دون رصيد معتبر من القراءة الحرة. السبب يعود إلى هيمنة المناهج التقليدية والامتحانات، التي تحوّل التعلم إلى عملية آلية وتُضيّق هامش الاكتشاف. الطفل الذي لا يقرأ بحرية يظل محدود التجربة، فقير الخيال، محرومًا من المتعة الإدراكية التي تصقل قدرته على التعبير والتفكير النقدي. هنا نستحضر جان جاك روسو حين قال: «التعليم الطبيعي يجب أن يحرر الطفل لا أن يقيده».
التكنولوجيا… فرصة أم تهديد؟
مع الطفرة الرقمية، أصبح الهاتف الذكي والجهاز اللوحي منافسًا للكتاب. لكن الأبحاث التربوية ترى أن التكنولوجيا قد تتحول إلى أداة قوية إذا وُجّهت بشكل سليم، إذ تتيح التفاعل مع النصوص وتوسيع آفاق المعرفة، شرط ألّا تكون بديلاً عن الكتاب الورقي بل مكمّلًا له. كما حذّر هيجل: «الحرية الفكرية لا تتحقق إلا حين يكون الإنسان قادرًا على الحكم بعقله لا بالعادات».
نحو جيل ناقد لا مستهلك
القراءة الحرة لم تعد نشاطًا جانبيًا، بل أداة مركزية لتكوين جيل يمتلك القدرة على التحليل والنقد. الجمع بين الكتاب الورقي والوسائط الرقمية ليس خيارًا ثانوياً، بل رهانًا تربويًا وفلسفيًا لإعداد تلاميذ مؤهلين للتفاعل الواعي مع المعرفة. وهنا يظل صوت كانط حاضرًا: «استعمل عقلك الخاص، فذلك هو جوهر التنوير».
سؤال مفتوح للمجتمع والمدرسة
هل نحن نربي أجيالًا ناقدة تفكر باستقلالية، أم نكتفي بأجيال تستهلك المعرفة بلا وعي؟ وكيف يمكن للمدارس والمجتمع أن يحوّلوا التكنولوجيا من منافس للقراءة الحرة إلى شريك داعم لها؟ أسئلة جوهرية تفرض نفسها، وتدعو إلى إعادة صياغة استراتيجيات التعليم بما يضمن تربية أطفال أكثر وعيًا، أكثر نقدًا، وأكثر استعدادًا لمستقبل معقّد ومفتوح.