في مشهد يعكس تغيرًا عميقًا في السلوك الاستهلاكي والاقتصادي بالمغرب، كشف بنك المغرب في تقريره السنوي حول الإشراف البنكي أن سنة 2024 شكّلت منعطفًا حقيقيًا في مسار الرقمنة المالية، مع توسع غير مسبوق في استخدام أجهزة الأداء الإلكتروني ونمو ملحوظ في وتيرة الادخار البنكي.
94 ألف جهاز أداء إلكتروني في المغرب.. والنشاط في تصاعد
بلغ عدد أجهزة الأداء الإلكتروني في المغرب 94.387 جهازًا بنهاية 2024، مسجلًا ارتفاعًا بنسبة 13% مقارنة بالسنة الماضية، وهو ما يعكس مدى تسارع وتيرة تبنّي هذا النمط العصري في المعاملات اليومية.
وليس الرقم فقط هو اللافت، بل إن 72% من هذه الأجهزة نشطة، في دليل واضح على أن الدفع الرقمي لم يعد خيارًا، بل أصبح واقعًا يُغيّر علاقة المغاربة مع المال.
قفزة نوعية في الدفع عبر الهاتف.. المحافظ الرقمية تنتشر بثقة
التحول الأبرز تجلّى في نمو الأجهزة المتوافقة مع الدفع عبر الهاتف المحمول (Mobile-Wallet)، والتي مثلت 93% من مجموع الأجهزة المُثبتة سنة 2024، مقابل 75% فقط في 2023.
قفزة تدعمها زيادة بنسبة 13% في عدد التجار المعتمدين لهذا النوع من الأجهزة، ما يضع المغرب في قلب الثورة الرقمية المالية التي باتت تشكل ملامح الاقتصاد العصري.
خريطة الأداء الرقمي: كازا تقود التحول.. وباقي المدن تلتحق
من حيث التوزيع الجغرافي، جاءت جهة الدار البيضاء–سطات في الصدارة بـ35% من مجموع الأجهزة، تليها مراكش–آسفي (21%)، ثم الرباط–سلا–القنيطرة (14%)، وجهة طنجة–تطوان–الحسيمة (9%).
هذا التوزيع يُبرز الحاجة إلى توسيع دائرة الرقمنة لتشمل المزيد من المناطق، في أفق عدالة رقمية شاملة.
من التوزيع إلى الصحة والسياحة.. الدفع الإلكتروني يقتحم كل القطاعات
لم يعد الأداء الإلكتروني حكرًا على قطاعات محدودة، بل انتشر في أنشطة متنوعة يقودها قطاع التوزيع بنسبة 23%، يليه قطاع الصحة (14%)، ثم الألبسة (13%) والسياحة (11%) والمطاعم (8%).
هذا التنوع يعكس تحولًا ثقافيًا عميقًا في المعاملات، ويفتح الباب أمام جيل جديد من المستهلكين والتجار يتعاملون بلغة رقمية خالصة.
ودائع البنوك تنمو بثبات: 1275 مليار درهم من الثقة
في جانب موازٍ، أظهر تقرير بنك المغرب أن الودائع البنكية بلغت 1275 مليار درهم بنهاية 2024، بنمو نسبته 9.2% مقارنة بالسنة السابقة.
هذه الطفرة تعود في جزء كبير منها إلى عملية التسوية الطوعية للوضعية الجبائية التي أطلقتها الحكومة، ما يشير إلى ارتفاع منسوب الثقة بين الأفراد والمؤسسات من جهة، والبنك من جهة أخرى.
الدرهم يواصل سيطرته.. وودائع التوفير تتراجع لصالح الودائع تحت الطلب
الودائع تحت الطلب حققت نموًا بنسبة 11.1% لتصل إلى 910.5 مليار درهم، مقابل نمو متواضع لودائع التوفير (2.6%) وعودة للودائع لأجل (4.7%) بعد تراجع سابق.
لكن الأبرز هو أن حصة الودائع تحت الطلب ارتفعت إلى 71.4%، ما يكشف عن سلوك مالي أكثر مرونة يفضل القابلية الفورية للصرف على حساب الادخار الطويل.
الأفراد والمقاولات يقودون النمو.. و”المغاربة العالم” يواصلون الدعم
بلغت ودائع الأفراد المقيمين 676.9 مليار درهم (+9.1%)، وودائع المقاولات الخاصة 274 مليار درهم (+14.8%)، بينما وصلت ودائع المغاربة المقيمين بالخارج إلى 207.2 مليار درهم (+1.8%).
وهذا النمو المتوازن يُظهر أن جميع الفئات — من مواطنين عاديين إلى مستثمرين ومؤسسات — تشارك في ترسيخ مناخ مالي صحي ومستقر.
الاستثمار المالي يعود بثقة.. وشركات التأمين تحقق انتعاشة تاريخية
سجلت ودائع شركات التأمين نموًا لافتًا بنسبة 46.6% لتصل إلى 7.4 مليار درهم بعد تراجع كبير في السنة السابقة، ما يُبرز عودة الثقة إلى السوق.
كما ارتفعت ودائع هيئات التوظيف الجماعي للقيم المنقولة بنسبة 20.8%، وهو مؤشر قوي على رغبة المستثمرين في العودة للأسواق وتحريك رساميلهم.
نحو مغرب رقمي ومالي جديد.. المواطن في صلب التحول
التحول الرقمي والمالي الجاري لا يتعلق فقط بالأرقام، بل هو تحول إنساني عميق يغيّر طريقة عيش المغاربة وتفكيرهم وتعاملهم مع المال والادخار والاستهلاك.
إنها رحلة نحو اقتصاد أكثر شفافية، أكثر مرونة، وأكثر ارتباطًا بحاجيات المواطن اليومية، يقودها المواطن بنفسه، وتواكبها الدولة بمؤسساتها.