يطرح توزيع الثروة بين جهات المغرب سؤالاً جوهرياً حول مدى تحقق العدالة المجالية والتوازن في التنمية. إذ لا معنى لنمو اقتصادي يُوصف بالشمولية أو الاستدامة، ما لم ينعكس على جميع الجهات بشكل منصف، سواء في خلق فرص العمل أو تحسين ظروف العيش.
59% من الثروة في ثلاث جهات فقط
المعطيات الأخيرة للمندوبية السامية للتخطيط تكشف واقعاً صارخاً: ثلاث جهات فقط ـ الدار البيضاء سطات، الرباط سلا القنيطرة، وطنجة تطوان الحسيمة ـ تنتج مجتمعة حوالي 59% من الناتج الداخلي الإجمالي. بالنسبة للمحلل الاقتصادي علي غنبوري، فهذا ليس مجرد رقم، بل إشارة قوية إلى اقتصاد يعيش على وقع اختلالات جغرافية عميقة.
اقتصاد غير متوازن واتساع الهوة
يقول غنبوري إن البنيات التحتية الكبرى والأنشطة الصناعية والخدماتية تتركز في مناطق محدودة، ما يمنحها قوة جذب إضافية ويزيد من تعميق الهوة بينها وبين باقي الجهات. والنتيجة: فارق يتجاوز 83 مليار درهم سنة 2023 بين متوسط الناتج الجهوي والوطني، مع استمرار تهميش مناطق الجنوب والجنوب الشرقي، رغم مؤهلاتها الطبيعية والبشرية.
العدالة المجالية كاختبار للسياسات العمومية
يرى غنبوري أن التحدي الحقيقي يكمن في تحويل هذا الواقع إلى فرصة لتصحيح المسار، مؤكداً أن النموذج التنموي الجديد يدعو بوضوح إلى تحفيز الاستثمار في الجهات الأقل حظاً، وتشجيع المقاولات الصغرى والمتوسطة، وضمان عدالة في توزيع البنيات التحتية. ويشدد على أن “مقاربة شمولية تنصف المجال وحدها قادرة على إدماج كل الجهات في الدورة الاقتصادية الوطنية ومنح المغرب قوة إضافية لمواجهة رهانات المستقبل”.
الديمغرافيا والقدرة الشرائية.. عاملان يفسران التفاوت
من جانبه، يربط المحلل الاقتصادي بدر الزاهر الأزرق هذا التمركز بعاملين أساسيين: الكثافة السكانية المرتفعة في الشمال الغربي، والفوارق في القدرة الشرائية. فهذه الجهات تستحوذ على الاستثمارات الكبرى وتحتضن المشاريع الاقتصادية الحيوية، ما يعزز من مستوى الإنفاق الاستهلاكي مقارنة بباقي مناطق المملكة.
“مغرب بسرعتين”.. واقع يفرض نفسه
الأزرق يرى أن هذه المعطيات تنسجم مع خطاب الملك محمد السادس الأخير، حين تحدث عن “مغرب السرعتين”: مغرب الأقطاب الكبرى، الغني بالبنيات التحتية والاستثمارات، ومغرب آخر يسير بوتيرة أبطأ، يفتقر إلى نفس الإمكانيات. وهنا يكمن الخطر: نمو يتجاوز 3% على مستوى النفقات النهائية، لكن محصور في ثلاث جهات، تاركاً بقية التراب الوطني خارج دائرة الاستفادة.
مراجعة شاملة لتصحيح المسار
ويختم الأزرق مؤكداً أن المغرب يحتاج اليوم إلى مراجعة شاملة للسياسات العمومية، من توزيع الاستثمارات إلى تهيئة البنى التحتية والخدمات. الهدف: جعل جميع الجهات أقطاباً اقتصادية قائمة بذاتها، تُسهم بعدالة في التنمية الوطنية، بدل تركيز الثروة في جغرافيا محدودة تكرس واقع “المغرب بسرعتين”.