تحولات على الخشبة: من الفلسفة إلى المواجهة
عاد المسرح المغربي في السنوات الأخيرة إلى الواجهة بروح جديدة، تتمرد على التقليد وتواجه الواقع بلا تجميل. بعد أن ظلت الخشبة حبيسة النصوص الفلسفية والرمزية، جاء جيل من المبدعين ليكسر جدار الصمت، ويعيد للمسرح دوره كمنبر للمساءلة والجرأة، من خلال أعمال تمزج بين الكوميديا السوداء والدراما النفسية والتجريب الأدائي.
كوميديا العبث في “لافاش”: حين تُتهم البقرة وتُدان القرية
من بين الأعمال التي أشعلت الجدل، تبرز مسرحية “لافاش”، التي تنطلق من حادث عبثي — اختفاء بقرة مستوردة تعود لأحد الأعيان — لتتحول إلى فضيحة تهز قرية بأكملها.
يُجبر المتهم “بناقص” على الاعتراف تحت التعذيب، لكن تقرير الطبيب البيطري يقلب الأحداث رأساً على عقب، معلناً أن البقرة حامل من “بناقص” نفسه.
تلك المفارقة الساخرة تفتح الباب أمام انكشاف شبكة من الفساد والنفاق والمصالح الخفية، وتحوّل الحادث السخيف إلى مرآة أخلاقية مريرة للمجتمع.
العمل من تأليف عبده جلال، وإخراج ودراماتورجيا عبد الكبير الركاكنة، وبطولة هند ضافر وبوشعيب العمراني وعبده جلال وعبد الكبير الركاكنة.
“تخرشيش”: عندما يتحول العنف إلى ميراث صامت
في المقابل، تذهب مسرحية “تخرشيش” إلى مناطق أكثر ظلمة وصداماً. العمل يغوص في قضية زنا المحارم داخل أسرة تعيش في عزلة، حيث يُقنع أبٌ طفلتيه بأن الممارسة الجنسية معه أمر طبيعي.
لكن الانكسار يحدث حين تستمع الابنة الكبرى إلى برنامج إذاعي يوقظ وعيها، لتبدأ مأساة التمرد والخوف والانتقام، وتنتهي القصة بجريمة قتل الأب وتقديمه طعاماً للخنزير — في مشهد رمزي يحطم كل التابوهات.
تكشف المسرحية أن الأب نفسه كان ضحية اغتصاب في طفولته، ليعيد إنتاج العنف ذاته، متشبثاً بمنطق مشوه: “أنا أولى ببناتي من غيري”.
الجدل الأخلاقي والفني: بين الصدمة والتطهير
أثارت “تخرشيش” موجة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب مشاهد جريئة وأداء جسدي مثير للجدل للممثلتين ساندية تاج الدين وهاجر المسناوي، وهو ما فتح نقاشاً أوسع حول حدود الحرية في المسرح المغربي، بين من يرى فيها تجسيداً فنياً للواقع، ومن يعتبرها تجاوزاً للحياء العام.
العمل من تأليف عبد الفتاح عشيق (2021)، وإخراج مريم الزعيمي، ويشارك في بطولته سعد موفق، أيوب أبو النصر، وساندية تاج الدين، إلى جانب خريجين من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي.
المسرح كمرآة للمجتمع: الفن في مواجهة الصمت
ما يجمع بين “لافاش” و”تخرشيش” هو إرادة كسر الصمت وتفجير الأسئلة الممنوعة. كلا العملين يضعان الجمهور أمام مرآة غير مريحة، تكشف ما يُخفى وراء الأقنعة الاجتماعية: العنف، الفساد، النفاق، والإنكار.
إنه مسرح مغربي جديد لا يهادن، يستعمل السخرية والجسد واللغة الصادمة كأدوات للوعي والاعتراف، ويعيد إلى الخشبة دورها التاريخي كمختبر للحقيقة لا كملاذ للهروب منها.