أكثر من مجرد جرافات… مشهد يسائل دولة وقانون
لم يكن هدم مركب «كرملين بوسكورة» مجرد عرض بصري ضخم تُسقط فيه الجرافات بنايةً تمتد على 15 ألف متر مربع. كان المشهد أبعد من ذلك: لحظة فارقة في معركة المغرب ضد البناء غير القانوني، ورسالة واضحة مفادها أن زمن التغاضي والامتيازات انتهى… وأن القانون لا يتجزأ.
غضب افتراضي ومحاولة قلب الرواية
الهدم أثار عاصفة على شبكات التواصل الاجتماعي. خرج صاحب المشروع ومحاميه لوصف العملية بـ”المتسرعة” و”الشطط في استعمال السلطة”، مؤكدين أن المركب استثمار سياحي بـ 160 مليون درهم ويوفر 200 منصب شغل.
رواية انتشرت بسرعة… لكنّها حجبت نصف الحقيقة، وتجاهلت معطيات جوهرية حول طبيعة المشروع ومسار الترخيص.

لماذا توقفت الجرافات؟ الحقيقة خلف الاستراحة القصيرة
سقوط مبنى واحد فقط من أصل مبنيين. توقفٌ أثار التكهنات، قبل أن يؤكد مصدر مطلع أن الأمر مجرد توقف تقني لتأمين الورش، وأن الهدم سيُستأنف بعد أيام، سواء بمبادرة من المالك أو بأمر من السلطات.
وبالفعل، عادت الجرافات صباح الاثنين لتكمل العمل تحت إشراف مباشر من السلطات المحلية.
من ترخيص لمنزل… إلى قاعات حفلات ضخمة
الرخصة الأصلية، الممنوحة قبل خمس سنوات، لم تكن تسمح إلا ببناء منزل بسيط وإسطبل للخيول. لكن المشروع تحوّل لاحقاً إلى مركب فندقي ضخم وقاعات حفلات، في منطقة مصنفة فلاحية يمنع فيها هذا النوع من البناء.
طلبان استثنائيان قدمهما المالك في 2021 و2024 قوبلا بالرفض. اللجنة الجهوية للاستثمار أوضحت بجلاء: الترخيص الاستثنائي يُطلَب قبل البناء… لا بعد اكتماله.

رفض، إنذارات، ثم هدم… رغم محاولة فرض الأمر الواقع
ألغت السلطات الترخيص سنة 2022 ومنحت مهلة ثلاث سنوات للهدم. لكن الأشغال استمرت، في تجاهل متكرر للإنذارات الرسمية.
رسالة المنعش كانت واضحة: محاولة فرض مشروع غير قانوني بالأمر الواقع. لكن الدولة كانت أكثر وضوحاً: لا أحد يعلو فوق القانون.
لماذا تدخّلت الدولة بعد خمس سنوات؟
سؤال تردد بقوة. لكن أحد المراجع الإدارية قدم جواباً صارماً:
«التقدم في البناء لا يمنح المشروعية… تماماً كما أن تكرار جريمة لثلاث سنوات لا يعفي من المحاسبة.»
ليست هذه السابقة الأولى؛ فـ”فيلا الأسود” في سلا انهارت رغم سنوات من الحصانة المتوهمة.

ملفات ثقيلة… ورئيس جماعة معزول
القضية انفجرت بعد أربعة أشهر من عزل رئيس جماعة بوسكورة السابق، المشتبه في تجاوزات تخص تراخيص البناء.
وفي خضم الهدم، تم عزل رئيس الجماعة الحالي أيضاً، وسط تحقيق إداري يشمل عدداً من الملفات ليس فقط «قصر الضيافة».
حملة غير مسبوقة ضد الفوضى العمرانية في النواصر
إقليم النواصر، الذي كان يوماً “جنة البناء العشوائي”، يعيش اليوم تغييراً جذرياً:
أكثر من 550 مستودعاً ومبنى مخالفاً هُدمت خلال الأشهر الأخيرة.
مصدر مسؤول يلخص المرحلة بجملة واحدة:
«لا امتيازات… كل واحد سيأتي دوره».
هدم “الكرملين”: نهاية نموذج عمراني منحرف
القضية تكشف تحولاً عميقاً في الحكامة العمرانية بالمغرب، وتضع حداً لسنوات من المحسوبية والمحاباة والنفوذ غير المشروع.
كما تؤكد أن الاستثمار الحقيقي يبدأ بالالتزام بالقانون واحترام مخططات التهيئة، لا بمحاولة الالتفاف عليها.
دولة القانون تنتصر… والرسالة واضحة
في النهاية، هدم «كرملين بوسكورة» ليس قصة مبنى سقط، بل قصة نظام قانوني يُعاد بناؤه.
إنه اختبار لقدرة الدولة على فرض سيادتها، وصيانة أراضيها الفلاحية، وحماية المجال العمراني من الفوضى.
وما حدث في بوسكورة قد يكون نقطة بداية: بداية زمنٍ لا يُبنى فيه سوى ما يحترم قواعد الدولة… وزمنٌ يفهم فيه الجميع أن القانون لم يعد رأياً، بل قاعدة حاسمة لا يمكن تجاوزها.















