في قلب العاصمة الروحية فاس، وتحت سماءٍ تعبق بالسكينة، احتشد المئات عند باب الماكينة التاريخي ليعيشوا واحدة من أصفى أمسيات التصوف في مهرجان فاس للثقافة الصوفية في دورته السابعة عشرة (18 – 25 أكتوبر).
المجموعة الرسمية للطريقة القادرية البودشيشية أهدت جمهورها لحظات نادرة من الصفاء الروحي، حيث التقت الموسيقى بالشعر، والذكر بالنغمة، في حوارٍ صامت بين الأرض والسماء.
مديح على إيقاع التراث
وسط الأضواء الخافتة وأصوات الدفوف والناي، صدحت حناجر المنشدين بمدائح تمجد النبي المصطفى ﷺ وتستحضر مكارم أخلاقه.
وقدّمت الفرقة باقة من القصائد الصوفية الموروثة عن كبار أعلام التصوف الإسلامي، مستخدمة آلات موسيقية تقليدية تنسج نسيجاً من الشجن والسكينة.
الجمهور، القادم من داخل المغرب وخارجه، لم يكن متفرجاً فقط، بل اندمج في طقس جماعي من الابتهال، مردداً الأذكار والأنغام بعفوية عميقة جعلت المكان أقرب إلى حضرة روحية مفتوحة.
حين يغدو الصوت تجلياً
“ما يميز أداءنا هو أنه نابع من القلب، من النية قبل النغمة”، يقول عبد الإله بنداوود، عضو المجموعة البودشيشية، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء.
ويضيف: “نغني لا لنطرب، بل لنفتح نافذة نحو الله. فالتصوف ليس فناً للآذان فقط، بل غذاء للروح”.
هذا الأداء الرباني كما وصفه، هو ما جعل الجمهور يعيش التجربة بعمق، متفاعلاً مع كل بيت شعري كأنه دعاء شخصي يُقال في صمتٍ داخلي.
مهرجان فاس… مختبر للروح الكونية
مهرجان فاس للثقافة الصوفية، الذي بات علامة مضيئة في المشهد الروحي العالمي، يحتفي هذا العام بشعار “شعرية العيش، الفنون في أبعادها الروحانية”.
وتتواصل فعالياته بمشاركة طرقٍ صوفية من الشرق والغرب، من الشرقاوية المغربية إلى الصقلية الأوروبية، وبحفلاتٍ تكريمية لرواد الموسيقى الأندلسية كـمحمد بريول ومروان حاجي ونور الدين الطاهري.
كما يقدم المهرجان عروضاً مسرحية وموسيقية من ثقافات متعددة، في فضاءات فاسية رمزية مثل جنان السبيل وباب الماكينة، ليجعل من فاس منصة عالمية للحوار بين الأديان والثقافات.
ما بين الفن والعبادة
في زمنٍ يعلو فيه صخب الماديات، تأتي أمسيات التصوف في فاس كتذكيرٍ بأن الجمال يمكن أن يكون طريقاً إلى الله، وأن الفن، حين يُصفّى من الغرور، يصبح عبادةً خالصة.
وهكذا، تُعيد الطريقة البودشيشية، بأدائها البديع، الروح إلى مكانها الأول: بين النغمة والنور.
تلك الليلة ستبقى محفورة في ذاكرة فاس، كوشوشةِ روحٍ تسكن المدينة منذ قرون… لا تُرى، لكنها تُحسّ في كل نغمة مديح تصعد نحو السماء.